السبت، 20 فبراير 2010

عالم جدير بالحياة


عالم جدير بالحياة
محمود رفعت




كثيرا ما نفتقد أشياءا و هي بين أيدينا.. و نحيد عن الطريق لأن أفكارا بديهيه لم نعرها ما تستحق من الإهتمام..ربما لو ذكرنا بها لسخرنا ممن ينبهنا إلى ما لا نجهله .. لكننا حين نسمح لعقولنا و قلوبنا أن تتأمل و أن تفقه تلك البديهيات .. فإننا نسمح لأنفسنا بالوصول.....


ففي غمرة سعينا الحميم لإصلاح واقعنا الأليم ننسى كثيرا من النقاط الأساسية , فنغرق أنفسنا في الوسائل و الإجراءات التي نتصور أنها الطريق إلى التقدم و الإصلاح , و لا نتوقف في التفكير في مفهوم التقدم الذي ننشده !! , و إلى أي إتجاه نتقدم ؟ , و لماذا نتقدم أصلا ؟؟ , و ما هي السلبيات التي نريد إصلاحها تحديدا ؟؟ فنتحرك بصوره هوجاء , و نضحي أحيانا بأهداف عظمى من أجل وسائل قد نصل بها أو لا نصل , و تضيع الحقائق وسط كثير من التفاصيل الإجرائية.


السؤال الأول المحوري و الذي تتفرع من إجابته تصورنا للحياه إجمالا و تفصيلا : ما هو الهدف الذي نسى إليه على المستويين الفردي و الجمعي و الذي أعتبر ما عاداه وسيلة للوصول إليه ؟

تختلف الإجابات على هذا السؤال على حسب هويه المجيب , لكنها إجابة واحدة يجمع على مضمونها أي مسلم حقيقي : رضا الله و الفوز بالجنة .


و من هنا تنشأ فكرة الهدف المخدوم و الهدف الخادم ، فأهداف مثل النجاح في الحياه أو بناء أسرة مسلمة أو الفوز بوظيفة محترمة هي أهداف خادمه للهدف المخدوم و هو الفوز برضا الله , هذا على المستوى الفردي , أما على المستوى الجمعي فإن أهدافا مثل التقدم الإقتصادي أو العسكري و مثل توفير ظروف إجتماعية أفضل أو تطوير أنظمة التعليم فهي أيضا أهداف خادمه لهذا الهدف المخدوم.

فالهدف الخادم هو وسيلة أو إجراء للهدف النهائي و لكنه في ذاته هدفا أيضا , و لكي ننجزه لابد من تقسيمه إلى مجموعه من الإجراءات العمليه مما يجعله هدفا مخدوما و له أهدافا خادمه و و هكذا دواليك في تسلسل هرمي يحتوي الحياة بأسرها , يقول تعالى " قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين" سوره الأنعام 162

بوضوح هذا المفهوم نشعر بمعية الله في كل حركه و إجراء نتخذه في حياتنا , إذ كل حركه مرتبطه بهدف أكبر منها و صولا إلى توحيد الله , فتكتسب كل حركه قيمه و معنى من إرتباطها بغايتها .

على الرغم من بداهة هذا المفهوم إلا أنه غالبا ما يغيب عن تفاصيل حياتنا . و بغيابه تفقد الحياة معناها و نصاب بالملل و الإحباط و الإكتئاب , قد نتفق جميعا على أن هدفنا النهائي هو رضا الله , و لكن هل نستحضر هذه النية حقا في كل تصرفاتنا , فتؤثر على مواقفنا و ترتيب أولوياتنا و طريقه قبولنا للنجاح و الإخفاق ...

يغيب هذا المفهوم بصورتين :


الأولي : عدم وجود هدف نهائي أصلا .... أو وجود أهدافا نهائية غير ربانية .
الثانية : وجود الهدف النهائي الرباني ... ولكن العلاقة بين الهدف الخادم و الهدف المخدوم غير واضحة .


نناقش هنا خطورة الصورة الثانية عن طريق طرح بعض الأمثله و مناقشتها ....



المثال الأول :

لأنه يحب أسرته و يتمناها أسرة سعيدة ناجحة ( هدف مخدوم ) فإنه يحاول توفير حياة كريمة لها ( هدف خادم ) لـذا فإنه يغرق نفسه في العمل .. ففي صباح كل يوم يلقي على أولاده نظره حانيه و هم نائمين على أسرتهم و يرجع إلي البيت بعد رجوعهم للأسرة أو قبل ذلك بقليل فلا يرونه إلا نادرا و لكنه في المقابل يوفر لهم حياه كريمه و عيش رغد – كما كانت تحلم زوجته – فلا ينقصهم شيئا ( فلنفترض أنهم قد يشعرون بذلك)......

*****

المثال الثاني :


كان حب الإسلام يملأ نفسه و أدرك ضرورة نصرة الإسلام بكل السبل المتاحة ( هدف مخدوم ) فدخل عالم السياسه ليخدم الإسلام و المسلمين و ليخدم الإسلام و يكون مثالا للسياسي المسلم الناجح ( هدف خادم ) و لأن الجمهور هو الحكم النهائي وهو الذي يحدد من الذي يقبله و من الذي لا يقبله ( بصورة ما هو الذي يحدد الحق من الباطل ) فإننا لكي نستطيع خدمه إسلامنا – سياسيا – لابد من البحث عن الإجراءات التي تجذب الجماهير .

دغدغه عواطف الجمهور و عدم الإقتراب من القضايا التي تسبب حساسيه عند قطاع – مؤثر – منهم , و لأن الجمهور لا يحب من يحرم عليه كل شئ فلا بأس من البحث عن أى رأي فقهي – مهما كان شاذا – يبيح ما يحب الناس إباحته ( و أحيانا يصل الأمر لتفصيل قواعد فقهيه على مقاس الجماهير ) فالإسلام دين يسر لا يحرم عليك حياتك .

و العلاقة مع باقي القوى السياسيه – اللادينيه – و منظمات المجتمع المدني التي تجمعنا بها بعض المصالح المشتركه أحيانا , تحتم علينا بعض التنازلات ( !!! ).


و للحفاظ على المظهر الإسلامي فإنه يظل طوال الوقت يبرر أحكام الإسلام ( التي وضعها في قفص الإتهام و نصب نفسه محاميا عنها ) فلكل حكم إسلامي – غير مقبول بمعايير السوق – مبرر كانت تحتمه الظروف الثقافية و الإجتماعية على عهد الرسول صلى الله عليه و سلم و لم يعد له ما يبرره .



إنه الواقع .... و أمامنا أهداف عليا أكبر من تلك الأمور( !!!!!!!!!! ) و لا حول و لا قوه إلا بالله.


*****

المثال الثالث :


طلب العلم و حفظ القرآن ( الهدف الخادم ) هما السبيل الأوحد لمعرفه الحق و عدم ضياع الطريق و الشروع في تأسيس الحياه الإسلاميه ( الهدف المخدوم) .. لابد أن نوليه إهتماما شديدا .... و لكنه في رحلته لطلب العلم و حفظ القرآن – ربما لشدة همته و سعيه الحميم لإنجاز أكبر قدر ممكن – لم يتوقف إلا نادرا للتفكر في آيه من آيات الله و لم يرق قلبه إلا قليلا خشوعا لله.. و الأدهى من ذلك تكبره على خلق الله – ممن هم أدنى منه في العلم أو في الحفظ – و سوء خلقه معهم....

*****

على الرغم من وضوح النيه الحسنه الصادقه المتوفره في الأمثله الثلاثه إلا أننا نلاحظ أن الإجراءات قد إحتلت مركز التفكير و تم تهميش الغايات مما يؤدي إلى إتخاذ إجراءات تضر بالغايات بل وأحيانا إلى التضحيه بها في نهايه الأمر ...


ففي المثال الأول :


إنه إعتبر النجاح في العمل و الكسب المادي هدفا ضروريا لكي يستطيع إسعاد أسرته و توفير العيش الرغد لهم و لكنه إهتم بذلك على حساب الهدف المخدوم و هو إستقرار الأسرة و السكن العاطفي بين أفراد الأسره , فيصير الأب / الزوج مجرد جالب مال...

و ها نحن نلاحظ شيوع هذه النظره لدور الرجل في البيت , فالفتاه التي كانت تحتاج إلى أبيها كمصدر للأمان و الحنان لم تجده إلا موفرا للمادة فقط تمر عليها فترات من الضياع و عدم الشعور بالأمان تشعر بأن شيئا ما ينقصها – ربما لا تعرفه - و لكنها في نهايه الأمر تتكيف مع هذا الوضع الشاذ اللا إنساني و تعتبر أن هذا هو دور الرجل في الحياة بل ربما تستنكرعلى من يعطي للعاطفة الإنسانية و السكن الأسري قدره , و طبعا ستتصور أنها قد نضجت بقدر يكفي لأن تهمل العاطفه , على أن تتظاهر بالتعاطف بالقدر المقرر في روشته النجاح التي أعدها خبراء التنميه البشريه ... و نفس المشكله عند الفتى الذي ينمو في ذات البيئه الشاذه التي تلقنه أن حبه لبيته يكون بتوفير حياه ( كريمه ! ) لهم و أن تلك هي الطريقة الوحيدة لإكتساب حب زوجته و إحترامها و كل ما سوى ذلك قابل للتفاوض و أحيانا يتم تلوين الكلام بصبغة دينية و فنستخدم أحاديث في غير سياقها و نضيف جملا إعتراضية لا محل لها من الإعراب كــ ( بشرط الحفاظ علي الدين و الشرف ) .


فينشأ جيل قابل لأن تسوقه الماده فتغير مواقفه و مفاهيمه و ولاءاته أي جيلا قابلا للترشيد ..

بل أحيانا يتم التضحيه بالأسره نفسها من أجل النجاح( بالمنظور المادي ) , فبعد أن تشرب الفتى و الفتاه أن النجاح هو الهدف الأسمى ثم تكون الضغوط الإجتماعية و المشاكل الأسرية و المتطلبات العاطفية عبئا يتأخر النجاح بسببه فتستقل الوسيلة عن الهدف تماما و يتم التضحية بالغاية في سبيل الوسيلة و هذا مشاهد في الواقع ...


إن النمط الحياتي لهؤلاء هو التضحية المؤقتة بالإستقرار من أجل توفير قدر محدد من الراحة و لكنهم ما أن يقتربوا من هذا الهدف حتى تتسع حدقاتهم لقدر أعلى منه مما يتطلب مزيد من التضحية ( الإستثنائية ) من أجل الوصول إلي الهدف المعدل ... و هكذا يدورون في هذا الدائرة اللانهائية ثم يتسائلون عن عبثيه الحياه و صعوبتها و يعانون من الأمراض الإجتماعيه العصريه ( دون ان يتصور أحدهم أن نمطهم الإستهلاكي و أهدافهم التافهة هي التي أعمتهم عن الحياة الحقيقية و معناها الحقيقي) ثم تصور حياتهم إذا إبتلي أحدهم بالفشل أو العجز، و نظرة محيطهم ( الذي كونوه بأنفسهم ) لهم في حالة الفشل.



إن مجتمعا يعبد النجاح بالمعنى المادي هو مجتمع منهار ينتظر من يعلن إنهياره .


*****
و عن المثال الثاني :


في المستدرك على الصحيحين للحاكم :عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال : رب قد فرغت . فقال : « أذن في الناس بالحج » . قال : رب وما يبلغ صوتي ؟ قال : « أذن وعلي البلاغ » . قال : رب كيف أقول ؟ قال : « قل : يا أيها الناس ، كتب عليكم الحج ، حج البيت العتيق فسمعه من بين السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون ؟ » «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه »


إن الإسلام لا يحتاج من يبرر أحكامه و لا من يغير ما لا يقبله السوق – و إن سمى التغيير تجديدا – بهدف إبلاغه , بل يحتاج من يمثله بصدق كما هو , رضي من رضي و سخط من سخط ...

ومن يزور الأحكام الإسلامية بهدف المصلحه يختلف تماما عن من يملك أدوات الإجتهاد و ينظر في االنصوص الشرعيه مخلصا يريد أن يعرف مراد الشرع في أمر ما ثم يصل لنفس ما وصل اليه الشخص الأول...


إن السياسه و الإقتصاد وجميع المجالات النهضوية و الحركية جزء من الحياة الإسلامية و ينبغي أن تهيمن قواعد الإسلام و أحكامه على سلوك المسلمين فيها كما أنها من مجالات الجهاد الإسلامي و دخول المسلمين فيها فرض كفاية – و الله أعلم – و لكن بشرط الإلتزام بالإسلام و إن دعت الفرص و التحديات لغير ذلك ...

و لكننا نجد أن التفكير في الإجراءات يحتل المركز و تهمش الغايات.... يقول الدكتور فريد الأنصاري " لقد إكتشفنا أن المنهج المعتمد لدى بعض إخواننا في الدعوة و الحركة منهج مقلوب ينطلقون فيه من العمران إلى القرآن , ينظرون إلى ما عند الآخر من بناء فيقيسون عليه ما يرون ما ينبغي أن يكون عندنا , و ينطلقون في البناء بل في التقليد مع مراعاة إسلامية الشكل الخارجي و يبقى الجوهر بعد ذلك يرشح بجاهليته" (1)


و يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري " و قد شهد النموذج الحضاري الغربي شكلا من أشكال التراجع في العالم العربي منذ الأربعينيات و يتمثل هذا في ظهور حركات إسلامية (..) و جماعة إشتراكية قومية مثل مصر الفتاة و كل هذه الحركات تفترض بشكل أو بآخر قصور النموذج الحضاري الغربي إلا أن الهدف المعلن أحيانا والغير معلن أحيانا أخرى هو دائما اللحاق بالغرب مع الحفاظ على هويتنا بقدر الإمكان على أن تتطور الهوية لتواكب العصر و هذا التيار في تصوري هو محاوله أخرى لتبني النموذج الغربي " (2)


ففي سعيهم لخدمه الإسلام و الإنتصار له يقعون في عده مشاكل:

الأولى : التنازل ( و أحيانا إزدراء ) بعض السنن و الأحكام الإسلاميه بدعوى أنها لا تناسب روح العصر أو أنها تشكل قيدا ضد التقدم .... أي التضحيه بالغايه من أجل الوسيله ..


الثانيه : الإستسلام للمعايير الماديه للنجاح و الإنتصار .


الثالثه : الإعتماد على مرجعية الجماهير مما يورث تصور أن رأي الأكثرية يمثل الحق دائما ....


كل هؤلاء و إن كنت أراهم مخطئين إلا أن هدفهم النهائي هو خدمه الإسلام و لكن المشكلة الأكبر أن البعض يعتبر الإسلام نفسه مجرد وسيلة للوصول إلى النجاح ( سواء في السياسه و الإقتصاد أو في مجالات الحياة عموما ) فقد صار إضافه كلمه إسلامي إلى أي شئ هو الطريق الأمثل لقبول الناس له بغض النظر عن إسلامية المضمون من عدمها ....
إني أتفق مع الدكتور عبد الوهاب المسيري عندما يقول أنه " ليس ضد الإستفادة من الآخر و ليس ضد الإنفتاح عليه و لكنه ضد أن يضع أحدهم ميزانا مستوردا في يده ليزن به الأشياء" (3)




*****

ما يقال عن المثال الثالث نفس ما قلناه من قبل و هو أن الإجراءات تحتل مركز التفكير و تهمش الغايات ....


فلنحاول إستخلاص نتائج كون العلاقه بين الهدف الخادم و الهدف المخدوم غير واضحه :

1- إتخاذ إجراءات تضر بالغايات .

2- إتخاذ إجراءات محمله بمرجعيه معرفيه مخالفة للإسلام .


3- فقدان الشعور بالعلاقة بين الإجراءات و الغايات يؤدي إلى فقدان الشعور بمعنى الحياه مما يؤدي إلى مشاكل نفسيه ( من الشعور بالملل إلى الإكتئاب و الإنتحار) و مشاكل إجتماعية ( الهوس الإستهلاكي و الجنسى و الهروب إلى العالم الإفتراضي و الفقر العاطفي و تحلل القيم و الفشل الأسري ) .


4- زياده الإهتمام بالإجراءات على حساب الغايات قد يؤدي للفصل بينهما في النهاية .


5- إنفصال الإجراء عن الغاية يؤدي لمرونة في المواقف ( نتيجه التحرر عن القيود الغائية ) فيتحول الإنسان لكائن كمي قابل للتفاوض و الترشيد .


و الله أعلم
(1) د . فريد الأنصاري : من القرآن إلى العمران : بلاغ الرساله القرآنيه : دار السلام 2009 صـ 15 بتصرف يسير

(2) د . عبد الوهاب المسيري : العالم من منظور غربي : دار الهلال 2001 صـ 90-91 بتصرف يسير

(3) المصدر السابق صـ 62 و العباره في سياق مثال .


الخميس، 4 فبراير 2010

هل ماتت القومية العربية ؟



هل ماتت القومية العربية ؟

محمود رفعت

على هامش الأفعال المؤسفة , و ردود الأفعال الأكثر أسفا , عقب مباراة مصر و الجزائر بالسودان , دعت مبادرة أداور لجلسة نقاشية حول موضوع " القوميه العربيه " , وما يلي مجمل مداخلاتي في الحوارمع بعض الإضافات .

1- حينما نناقش القضايا الإنسانية كقضايا الهوية و الإنتماء و الوحدة لابد أن نفرق بوضوح بين الرؤية الوصفية ( وصف ما هو كائن ) و الرؤية المعيارية ( وصف ما ينبغي أن يكون ) .


2- منذ بداية ظهور دعاوى العروبة و القومية العربية ,حتى الأن إختلفت الدوافع و الأطروحات , مما يجعل أنه من الخظأ بمكان إعتبار أن كل دعاة القوميه العربية يحملون ذات الرؤية , و بالتالي فلا ينبغي أن تتوحد مواقفنا منهم .

ففي تصوري أن دعاة القومية العربية الأوائل الذين دعوا إليها كرد فعل على القومية الطورانية ( التركية ) أو خوفا من الجامعة الإسلامية , إنما كانوا ينظرون بنظرة شعوبية ضيقة تفرق صفوف المسلمين عن إنتمائهم الأكبر للإسلام , و لا يختلفون كثيرا عن دعاة القومية الطورانية.

و صنف آخر ممن ينادون بالعروبة و هم غالبية المغاربة و بعض الإسلاميون المشارقة , ففي الجزائر مثلا - و كلنا يعلم مدي بشاعة الإستعمار الفرنسي و دمويته ضد كل ما يشير إلى الإسلام حتى اللغة - فكانت اللغة في أذهان الجزائريين مرتبطة بالإسلام إرتباطا و ثيقا , فالدعوة  للعروبة  دعوة  للإسلام , و لذلك  فهم  يختلفون  عن الصنف السابق .

و الصنف الثالث هم اللذين تعاملوا مع القومية العربية  بنظرة  نفعية  سياسية / إقتصادية و هم أقرب من تبنوا القومية بالمفهوم الحداثي الغربي.


3- بدأ إنتشار مفهوم القومية في الغرب مع بداية عصور الحداثة , و إرتبط بمفهومي دولة الرفاهية و الفردية , ففي الوقت الذي ثارت المجتمعات الغربية على سلطة الدين تلاشت الظلال الروحية و الإجتماعية للكنيسة , مما دفع مبشري العصر الجديد لإختلاق أساطير بديلة لإشباع الجوانب الميتافيزيقية و الإجتماعية عند جموع الثوار و البسطاء , و كانت غاياتهم و أهدافهم الكبرى تتلخص في بناء العالم الإنساني المثالى الذي تتحقق فية رفاهية الفرد و حريته الشخصية .

يقول جويسيبى ماتزينى الزعيم والسياسى القومى الإيطالى: إن القومية هى انتماء جماعة بشرية واحدة لوطن واحد شريطة أن يجمعها تاريخ مشترك ولغة واحدة في أرض هذا الوطن(1).

في تصوري أن الهدف من الحركات القومية الغربية هو تحقيق هذا المجتمع المثالي الذي يجد فيه الفرد خصوصيه و رفاهيتة ( حتى و إن كان على حساب القوميات الأخرى الأقل قوة ) أما الجانب الثقافي فهو الأسطورة التي تساعد السياسيين على تمرير رؤاهم العنصرية تحت مبررات تبدوا أخلاقية .


4- إذا كان الدافع الأساسي للقومية هو المصالح المادية ( سياسية - عسكرية - إقتصادية) من منطلق أن الإتحاد قوه , ففي وقت تتلاشى فيه حاجة تلك الوحدة أو يقدر أحد الأطراف أن الوحدة تكلفه أكثر مما تعطيه , فإنه عمليا يتخلى عنها ليخرج بأفضل النتائج و إن ظل يردد شعاراتها.
و هو ما أدى لإنهيار مفهوم القومية في الغرب ( لتظهر مصطلحات كـ  ما بعد القوميات و القصة الصغرى ) و أدى  لتجميد  تطبيقات  القومية  العربية .
فما تجمعه المصلحة تفرقه المصلحة, ما تجمعه السياسة و الإقتصاد تفرقه السياسة و الإقتصاد.



5- لكي نتحد لابد من رابطة تتجاوز المصلحة فإما أن نتخذ أسطورة ميتافيزيقية نجتمع حولها ( دولة الرفاهية - إستعلاء عرقي - خرافات ) أو نجتمع حول الحق المطلق و هو الإسلام .
عمليا كلا الخيارين - و لو مرحليا - يؤديان إلى الوحدة .
و لكن بصورة غائية فمن واجب المسلمين أن يبحثون عن الحق الصافي , و يحددون معالمه بوضوح , و يجتمعون حوله لبناء الحضارة الإسلامية من جديد , على أن تحدد أخلاقيات الإسلام علاقاتهم مع باقي الثقافات الإثنية ممن يشاركونهم في ذات البناء الحضاري .


6- هل يمثل الإجتماع حول الهويات المتجاوزة للمنفعة المادية ظلما للأقليات؟
نعم , في حالة كون الهوية المتجاوزه للمنفعة تدعوا لظلم الأقليات , و لا تختلف في ذلك عن الأساطير المادية .
" فيلاحظ أن صياغة رؤية الجماعات القومية في غرب أوروبا لنفسها قد استغرق وقتًا طويلا جدًّا تم أثناءه صهر (أو إبادة) اعضاء الأقليات الإثنية التي لا تنتمى للأسطورة القومية. ثم ظهرت الإمبريالية، فزادت من تحدد الأسطورة ومن عدوانيتها وتجانسها وانغلاقها، وأضافت لها مقولات التفوق والنقاء العنصرى التي تختزل الآخر في عنصر واحد متدنى، حتى يمكن تحويله إلى مادة استعمالية " (2).

يجيب على السؤال- في حالة الإسلام- سؤالا أكثر وضوحا : هل يدعو الإسلام للإضطهاد ؟ و هل أباد المسلمون في عصور قوتهم الآخرين؟


7- يلاحظ في الفترة الأخيرة تشابه كبير بين الإسلاميين و القوميين في أطروحاتهم , و لكن في تصورى أن إختلافا جوهريا لا يظهر على السطح بين الفريقين .
فالإسلاميون يعتبرون العروبة إحدى عناصر المركب الإجتماعي للمجتمع الإسلامي.
و القوميون يعتبرون الإسلام إحدى عناصر المركب الإجتماعي للمجتمع العربي .
و بين هؤلاء و هؤلاء أناس أعجبتهم شعارات القوم في زمن الهزيمة .




----------------------------------------------
(1)موسوعة ويكيبيديا

(2) موسوعة ويكيبيديا و يلاحظ من الإسلوب و المصطلحات أن هذا الكلام غالبا مقتبس من الدكتور عبد الوهاب المسيري